الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
ثم إن فروخ [اللفظية النافية]، الذين يقولون بأن حروف القرآن ليست من كلام الله،تروي عن منازعيها أنهم يقولون: القرآن ليس هو إلا الأصوات المسموعة من العبد، وإلا المداد المكتوب في الورق، / وأن هذه الأصوات وهذا المداد قديمان، وهذا القول ما قاله أحد ممن يقول: إن القرآن ليس إلا الحروف والأصوات، بل أنكروا ذلك وردوه، وكذبوا من نقل عنهم أن المداد قديم، ولكن هذا القول قد يقوله الجهال المتطرفون، كما يحكى عن أعيانهم ـ مثل سكان بعض الجبال ـ أن الورق والجلد والوتد وما أحاط به من الحائط كلام الله، أو ما يشبه هذا اللغو من القول الذي لا يقوله مسلم ولا عاقل. وفروخ [اللفظية] المثبتة الذين يقولون: إن القرآن ليس إلا الحروف والصوت، تحكي عن منازعيها : أن القرآن ليس محفوظًا في القلوب. ولا متلوًا بالألسن، ولا مكتوبا في المصاحف، وهذا ـ أيضًا ـ ليس قولاً لأولئك، بل هم متفقون على أن القرآن محفوظ في القلوب متلو بالألسنة، مكتوب في المصاحف، لكن جهالهم وغاليتهم إذا تدبروا حقيقة قول مقتصديهم ـ أن القرآن العربي لم يتكلم الله به، وأنه ليس إلا معنى واحد قائم بالذات، وأصوات العباد ومداد المصحف يدل على ذلك المعنى، وأنه ليس لله في الأرض كلام في الحقيقة، وليس في الأرض إلا ما هو دال على كلام الله، ولم يقل إلا ما هو دال على كلام الله، وكلام الله إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وهو معنى واحد لا يتعدد، ولا يتبعض، ولا يتكلم الرب بمشيئته وقدرته، إلى / أمثال ذلك من حقائق قول المقتصدين ـ أسقطوا حرمة المصحف، وربما داسوه ووطؤوه، وربما كتبوه بالعَذِرَة أو غيرها. وهؤلاء أشد كفرًا ونفاقاً ممن يقول الجلد والورق كلام الله؛ فإن أولئك آمنوا بالحق وبزيادة من الباطل، وهؤلاء كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، فسوف يعلمون؛ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون. وأما أهل العلم بالمقالة وأهل الإيمان بالشريعة، فيعظمون المصحف ويعرفون حرمته، ويوجبون له ما أوجبته الشريعة من الأحكام؛ فإنه كان في قولهم نوع من الخطأ والبدعة، وفي مذهبهم من التجهم والضلال ما أنكروا به بعض صفات الله وبعض صفات كلامه ورسله، وجحدوا بعض ما أنزل الله على رسله، وصاروا مخانيثا للجهمية الذكور المنكرين لجميع الصفات، لكنهم مع ذلك متأولون قاصدون الحق. وهم مع تجهمهم هذا يقولون: إن القرآن مكتوب في المصحف مثل ما أن الله مكتوب في المصحف، وأنه متلو بالألسن مثل ما أن الله مذكور بالألسن، ومحفوظ في القلوب مثل ما أن الله معلوم بالقلوب، وهذا القول فيه نوع من الضلال والنفاق والجهل بحدود ما أنزل الله على رسوله ما فيه، وهو الذي أوقع الجهال في الاستخفاف بحرمة / آيات الله وأسمائه حتى ألحدوا في أسمائه وآياته. كما أن إطلاق الأولين : أنه ليس للقرآن حقيقة إلا الحروف والأصوات، ولا يفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت القارئ وأن القرآن قديم ـ أوقع الجهال منهم والكاذبين عليهم في نقلهم عنهم: أن أصوات العباد والمداد الذي في المصحف قديم، وأن الحروف التي هي كلام الله هي المداد، وإن كانوا لم يقولوا ذلك، بل أنكروه ؛ كما فرق الله بين الكلمات والمداد في قوله: أما الغلط في تصوير مذهبهم، فكان الواجب أن يقولوا : إن القرآن في المصحف مثل ما أن العلم والمعاني في الورق، فكما يقال: العلم في هذا الكتاب يقال: الكلام في هذا الكتاب؛ لأن الكلام عندهم هو المعنى القائم بالذات فيصور له المثل بالعلم القائم بالذات لا بالذات نفسها. وأما الغلط في الشريعة، فيقال لهم : إن القرآن في المصاحف مثل ما أن اسم الله في المصاحف ؛ فإن القرآن كلام ؛ فهو محفوظ بالقلوب كما يحفظ الكلام بالقلوب، وهو مذكور بالألسنة كما يذكر / الكلام بالألسنة، وهو مكتوب في المصاحف والأوراق كما أن الكلام يكتب في المصاحف والأوراق، والكلام الذي هو اللفظ يطابق المعنى ويدل عليه، والمعنى يطابق الحقائق الموجودة . فمن قال: إن القرآن محفوظ كما أن الله معلوم، وهو متلو كما أن الله مذكور، ومكتوب كما أن الرسول مكتوب ـ فقد أخطأ القياس والتمثيل بدرجتين: فإنه جعل وجود الموجودات القائمة بأنفسها بمنزلة وجود العبارة الدالة على المعنى المطابق لها، والمسلمون يعلمون الفرق بين قوله تعالى: فإن القرآن لم ينزل على أحد قبل محمد؛ لا لفظه، ولا جميع معانيه، ولكن أنزل الله ذكره والخبر عنه، كما أنزل ذكر محمد والخبر عنه، فذكر القرآن في زبر الأولين كما أن ذكر محمد في زبر الأولين، وهو مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل. فالله ورسوله معلوم بالقلوب، مذكور بالألسن، مكتوب في المصحف، كما أن القرآن معلوم لمن قبلنا، مذكور لهم، مكتوب عندهم، وإنما ذاك ذكره والخبر عنه، وأما نحن فنفس القرآن أنزل إلينا، ونفس القرآن مكتوب في مصاحفنا، كما أن نفس القرآن في الكتاب المكنون وهو في الصحف المطهرة. ولهذا يجب الفرق بين قوله تعالى: وذلك أن كل شيء فله أربع مراتب في الوجود: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان: وجود عيني، وعلمي، و لفظي، ورسمي؛ ولهذا كان أول ما أنزل الله من القرآن : فهذا الوجود العيني، ثم قال: وإذا كان كذلك فالقرآن كلام، والكلام له المرتبة الثالثة، ليس بينه وبين الورق مرتبة أخرى متوسطة، بل نفس الكلام يثبت في الكتاب، كما قال الله تعالى : وقال: وقد يقال: إنه مكتوب فيها، كما يطلق القول أنه فيها، كما قال تعالى: أو رسوله أو غير ذلك من الأعيان فإنما في الصحف اسمه، وهو من الكلام ؛ ولهذا قال: ولو قال قائل: الله أو رسوله في الصحف أو الورق لأنكر ذلك، إلا مع قرائن تبين المراد، كما في قوله: أي : مزبور، أي : مكتوب، فلفظ الزبور يدل على الكتابة، وهذا مثل ما في الحديث المعروف عن مَيْسَرة الفجر قال : قلت : يا رسول الله، / متى كنت نبيًا ـ وفي رواية: متى كتبت نبيًا- ؟ قال: [وآدم بين الروح والجسد] رواه أحمد. فهذا الكون هو كتابته وتقديره وهو المرتبة الرابعة، كما تقدم. فإن هذه المرتبة تتقدم وجود المخلوقات عند الله، وعند من شاء من خلقه، وإن كانت قد تتأخر -أيضًا- فإن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله: والتقدير والكتابة تكون تفصيلا بعد جملة. فالله ـ تعالى ـ لما قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة لم يظهر ذلك التقدير للملائكة. ولما خلق آدم قبل أن ينفخ فيه الروح أظهر لهم ما قدره، كما يظهر لهم ذلك من كل مولود، كما في الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يُجمَع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا نُطْفَة، ثم يكون عَلَقَة مثل ذلك، ثم / يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد) وفي طريق آخر وفي رواية: (ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال:اكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح). فأخبر صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث الصحيح- أن الملك يؤمر بكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، بعد خلق جسد ابن آدم وقبل نفخ الروح فيه. فكان ما كتبه الله من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ـ الذي هو سيد ولد آدم- بعد خلق جسد آدم وقبل نفخ الروح فيه من هذا الجنس، كما في الحديث الآخر الذي في المسند وغيره عن العِرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لَمُنْجَدِل في طينته) وهذا وأمثاله من وجود الأعيان في الصحف. وأما وجود الكلام في الصحف فنوع آخر؛ ولهذا حكى ابن قتيبة من مذهب أهل الحديث والسنة : أن القرآن في المصحف حقيقة لا مجازًا، كما يقوله بعض المتكلمة، وإحدى [الجهميات] التي أنكرها أحمد، وأعظمها قول من زعم أن القرآن ليس في الصدور ولا في المصاحف، وأن من قال ذلك فقد قال بقول النصارى، كما حكى له ذلك عن موسى / بن عقبة الصوري ـ أحد كتبة الحديث إذ ذاك ؛ ليس هو صاحب المغازي ؛ فإن ذلك قديم من أصحاب التابعين ـ فأعظم ذلك أحمد، وذكر النصوص والآثار الواردة وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم : (استذكروا القرآن فلهو أشد تَفَصِّيًا من صدور الرجال من النََّعَم من عُقُلِها)، ومثل قوله: (الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخَرِب) وغير ذلك. وليس الغرض هنا إلا التنبيه اللطيف. ومن قال: إن هذا شبه قول النصارى، فلم يعرف قول النصارى، ولا قول المسلمين، أو علم وجحد، وذلك أن النصارى تقول: إن الكلمة ـ وهي جوهر إله عندهم ورب معبود ـ تدرع الناسوت واتحد به كاتحاد الماء واللبن، أو حل فيه حلول الماء في الظرف، أو اختلط به اختلاط النار والحديد، والمسلمون لا يقولون: إن القرآن جوهر قائم بنفسه معبود، وإنما هو كلام الله الذي تكلم به، ولا يقولون: اتحد بالبشر. وأما إطلاق حلوله في المصاحف والصدور، فكثير من المنتسبين إلى السنة الخراسانيين وغيرهم يطلق ذلك، ومنهم من العراقيين وغيرهم من ينفي ذلك ويقول: هو فيه على وجه الظهور لا على وجه الحلول، / ومنهم من لا يثبته ولا ينفيه، بل يقول:القرآن في القلوب والمصاحف،لا يقال: هو حال ولا غير حال؛ لما في النفي والإثبات من إيهام معنى فاسد، وكما يقول ذلك طوائف من الشاميين وغيرهم، ولا نزاع بينهم أن كلام الله لا يفارق ذات الله، وأنه لا يباينه كلامه ولا شيء من صفاته، بل ليس شيء من صفة موصوف تباين موصوفها وتنتقل إلى غيره، فكيف يتوهم عاقل أن كلام الله يباينه وينتقل إلى غيره؟ ولهذا قال الإمام أحمد: كلام الله من الله، ليس ببائن منه، وقد جاء في الأحاديث والآثار: [أنه منه بدأ، ومنه خرج] ومعنى ذلك: أنه هو المتكلم به لم يخرج من غيره، ولا يقتضي ذلك أنه باينه وانتقل عنه. فقد قال ـ سبحانه ـ في حق المخلوقين: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نَضَّرَ الله امرأ سمع منا حديثًا فبلَّغه إلى من لم يسمعه، فَرُبَّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، وقال: (بَلِّغوا عني ولو آية). والكلام في الورق ليس هو فيه كما تكون الصفة بالموصوف / والعَرَض بالجوهر، بحيث تصير صفة له، ولا هو فيه كما يكون الجسم في الحيز الذي انتقل إليه من حيز آخر، ولا هو فيه كمجرد الدليل المحض بمنزلة العالم الذي هو دليل على الصانع، بل هو قسم آخر معقول بنفسه، ولا يجب أن يكون لكل موجود نظير يطابقه من كل وجه، بل الناس بفطرهم يفهمون معنى كلام المتكلم في الصحيفة، ويعلمون أن كلامه الذي قام به لم يفارق ذاته ويحل في غيره، ويعلمون أن ما في الصحيفة ليس مجرد دليل على معنى في نفسه ابتداء، بل ما في الصحيفة مطابق للفظه، ولفظه مطابق لمعناه، ومعناه مطابق للخارج، وقد يعلم ما في نفسه بأدلة طبعية، وبحركات إرادية لم يقصد بها الدلالة، ولا يقول أحد: إن ذلك الكلام للمتكلم مثل كلامه المسموع منه، فلو كان الكلام إنما سمى بذلك لمجرد الدلالة لشاركه كل دليل. وسنتكلم إن شاء الله ـ تعالى ـ على ذلك. ولو كان ما في المصحف وجب احترامه لمجرد الدلالة، وجب احترام كل دليل، بل الدال على الصانع وصفاته أعظم من الدال على كلامه، وليست له حرمة كحرمة المصحف، والدال على المعنى القائم بنفس الإنسان قد يعلم تارة بغير اختياره، وقد يعلم بأصوات طبعية، كالبكاء، وقد يعلم بحركات لم يقصد بها الدلالة، وقد يعلم بحركات يقصد بها الدلالة كالإشارة، وقد يعلم باللفظ الذي تقصد به الدلالة.
وصار هؤلاء الذين غلطوا مذهب [اللفظية] وزادوا فيه شرًا كثيرًا؛ إذ قالوا: [القراءة] غير المقروء، و[التلاوة] غير المتلو، و[الكتابة] غير المكتوب، إنما يعنون بالقراءة أصوات القارئين وبالكتابة مداد الكاتبين، ويعنون أن هذا غير المعنى القائم بالذات الذي هو كلام الله، وإنما هو دلالة عليه، وعبارة عنه، وليس عندهم إلا قراءة ومقروء، فلم يبق إلا صوت، ومداد، ومعنى قائم بالذات، ليس ثَمَّ قرآن غير ذلك. وأسقطوا حروف كلام الله التي تكلم بها، وحقيقة معاني القرآن التي في نفس الله ـ تعالى ـ وأسقطوا أيضًا معاني القرآن التي في نفوس القارئين والمستمعين؛ فإنه لا ريب أن القرآن الذي نقرؤه فيه حروف ومعاني حروف منطوقة ومسطورة؛ فإذا لم يكن عندهم إلا صوت العبد وحبر المصحف فأين المعاني؟ وأين حروف القرآن التي أنزلها الله؟وإن كانت عندهم مخلوقة، وكيف يتصور ألا يكون لجميع ما أنزل الله ـ تعالى ـ من الكتب إلا معنى واحد، يكون أمرًا ونهيًا ووعدًا ووعيدًا، / وتكون هذه أوصافه لا أقسامه ؟ فإن هؤلاء يقولون: إن معاني جميع كلام الله معنى واحد، فمعنى: ولهذا كان أكثر العقلاء يقولون: فساد هذا معلوم بالاضطرار، ويقولون: الأمر والنهي والخبر صفات إضافية للكلام، وليست هي أنواع الكلام وأقسامه، وكلام الله شأنه أعظم من شأن كلام المخلوقين، والكلام الذي في المصحف هو من هذا القسم الأخير دون الأقسام المتقدمة، فكيف إذا كان لذلك اللفظ من الخصائص ما قيل فيه: لكن من الأشياء ما يدل على غيره بقصد منه، ومنها ما يدل على غيره بغير قصد منه للدلالة كالجامدات، فإن فيها مقاصد غير دلالتها على الخالق، ومن الأشياء مالا يقصد به إلا الدلالة، بحيث إذا ذكر ما يقصد بذكره ذكر مدلوله كالاسم مع مسماه، فالمقصود من الاسم هو المسمى؛ فلهذا إذا ذكر الاسم كان المقصود به المسمى، وكذلك [اللفظ] مع المعنى الذي هو مدلوله، وكذلك [الخط] مع اللفظ، فالمقصود من الخط / إنما هو اللفظ، والمقصود من الحروف المرسومة هو الحروف المنطوقة؛ ولهذا كان لفظ الحرف مقولا عليهما جميعًا. فإذا قيل: الكلام من الكتاب عرف أن المقصود مما في الكتاب هو الكلام دون غيره؛ ولهذا كان لهذا من الاختصاص بالحرمة ما ليس لما يقصد منه الدلالة وغير الدلالة، والله أعلم.
وصار أولئك الذين غلطوا مذهب [اللفظية المثبتة]، الذين يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق ، ويقولون: [التلاوة] هي المتلو، و[الكتابة] هي المكتوب، وما عندهم من القرآن إلا ما توهموا من الحروف والأصوات، يلتزم أحدهم:أن الصوت القديم يسمع من القارئ، ويوهمون المخالف لهم أن عين الصوت المسموع من العبد هو عين الصوت الذي تكلم الله به، وينكرون معاني حقائق القرآن أن تكون من كلام الله،ولا يجعلون المعنى من كلام الله، وكان السلف يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، والقرآن حيث تصرف فهو كلام الله غير مخلوق. واللفظية المبتدعة المثبتة، الذين أنكر عليهم الإمام أحمد وغيره، / إنما قالوا: لفظنا به غير مخلوق، ولم يقولوا: قديم. فجاءت المغلطة لمذهبهم، فقالوا: لفظنا به قديم، ولفظنا به أصواتنا، فأصواتنا به قديمة، والإمام أحمد وسائر الأئمة من أصحابه، الذين صحبوه وغيرهم ومن بعدهم من الأئمة، ينكرون هذه المراتب الأربع؛ فإنهم ينكرون أن يقال: لفظي به غير مخلوق، فكيف لفظي به قديم؟ فكيف صوتي به غير مخلوق؟ فكيف صوتي به قديم؟ أو بعض الصوت المسموع قديم؟ ونحو ذلك.
ومن تأمل نصوص الإمام أحمد في هذا الباب، وجدها من أسد الكلام وأتم البيان، ووجد كل طائفة منتسبة إلى السنة قد تمسكت منها بما تمسكت، ثم قد يخفي عليها من السنة في موضع آخر ما ظهر لبعضها فتنكره. ومنشأ النزاع بين أهل الأرض، والاضطراب العظيم الذي لا يكاد ينضبط في هذا الباب، يعود إلى أصلين: مسألة تكلم الله بالقرآن وسائر كلامه، ومسألة تكلم العباد بكلام الله. / وسبب ذلك أن التكلم والتكليم له مراتب ودرجات، وكذلك تبليغ المبلغ لكلام غيره له وجوه وصفات، ومن الناس من يدرك من هذه الدرجات والصفات بعضها، وربما لم يدرك إلا أدناها، ثم يكذب بأعلاها، فيصيرون مؤمنين ببعض الرسالة، كافرين ببعضها، ويصير كل من الطائفتين مصدقة بما أدركته، مكذبة بما مع الآخرين من الحق. وقد بين الله في كتابه وسنة رسوله ذلك، فقال: تعالى: وقال: ففي هذه الآية خص بالتكليم بعضهم، وقد صرح في الآية الأخرى بأنه كلم موسى تكليمًا، واستفاضت الآثار بتخصيص موسى بالتكليم، فهذا التكليم الذي خص به موسي على نوح وعيسى ونحوهما، ليس هو / التكليم العام الذي قال فيه: فروينا في كتاب [الإبانة] لأبي نصر السجزي، وكتاب البيهقي، وغيرهما عن عقبة، قال: سئل ابن شهاب عن هذه الآية: قلت: فالأول: الوحي، وهو الإعلام السريع الخفي؛ إما في اليقظة / وإما في المنام؛ فإن رؤيا الأنبياء وحي، ورؤيا المؤمنين جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح، وقال عبادة بن الصامت ـ ويروي مرفوعًا ـ: رؤيًا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام. وكذلك فـي [اليقظة]، فقـد ثبـت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد كان في الأمـم قبلكم مُحَدَّثُون، فإن يكن في أمتي فعُمَرُ)، وفـي روايـة في الصحيح: (مكلمـون)، وقد قال تعالى: فهذا الوحي يكون لغير الأنبياء، ويكون يقظة، ومنامًا، وقد يكون بصوت هاتف، يكون الصوت في نفس الإنسان، ليس خارجًا عن نفسه يقظة ومنامًا، كما قد يكون النور الذي يراه أيضًا في نفسه. فهذه الدرجة من الوحي ـ التي تكون في نفسه من غير أن يسمع صوت ملك- في أدنى المراتب وآخرها، وهي أولها باعتبار السالك، وهي التي أدركتها عقول الإلهيين من فلاسفة الإسلام الذين فيهم إسلام وصُبُوء [أي: خروج من الدِّين]، فآمنوا ببعض صفات الأنبياء والرسل ـ وهو قدر مشترك بينهم وبين غيرهم ـ ولكن كفروا بالبعض، فتجد بعض / هؤلاء يزعم أن النبوة مكتسبة، أو أنه قد استغنى عن الرسول، أو أن غير الرسول قد يكون أفضل منه، وقد يزعمون: أن كلام الله لموسى كان من هذا النمط، وأنه إنما كلمه من سماء عقله، وأن الصوت الذي سمعه كان في نفسه، أو أنه سمع المعنى فائضًا من العقل الفعال، أو أن أحدهم قد يصل إلى مقام موسى. ومنهم من يزعم أنه يرتفع فوق موسى، ويقولون: إن موسي سمع الكلام بواسطة ما في نفسه من الأصوات، ونحن نسمعه مجردًا عن ذلك . ومن هؤلاء من يزعم أن جبريل الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الخيال النوراني، الذي يتمثل في نفسه، كما يتمثل في نفس النائم، ويزعمون أن القرآن أخذه محمد عن هذا الخيال المسمى بجبريل عندهم؛ ولهذا قال ابن عربى ـ صاحب [الفصوص] و [الفتوحات المكية]: إنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذى يوحى به إلى الرسول. وزعم أن مقام النبوة دون الولاية، وفوق الرسالة، فإن محمدًا ـ بزعمهم الكاذب ـ يأخذ عن هذا الخيال النفساني ـ الذي سماه ملكا ـ وهو يأخذ عن العقل المجرد الذي أخذ منه هذا الخيال. ثم هؤلاء لا يثبتون لله كلامًا اتصف به في الحقيقة، ولا يثبتون أنه قصد إفهام أحد بعينه، بل قد يقولون: لا يعلم أحدًا بعينه، إذ علمه / وقصده عندهم إذا أثبتوه لم يثبتوه إلا كليًا لا يعين أحدًا، بناء على أنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي، وقد يقرب أو يقرب من مذهبهم من قال باسترسال علمه على أعيان الأعراض، وهذا الكلام ـ مع أنه كفر باتفاق المسلمين ـ فقد وقع في كثير منه من له فضل في الكلام والتصوف ونحو ذلك، ولولا أنى أكره التعيين في هذا الجواب لعينت أكابر من المتأخرين. وقد يكون الصوت الذي يسمعه خارجا عن نفسه من جهة الحق ـ تعالى ـ على لسان ملك من ملائكته أو غير ملك، وهو الذي أدركته الجهمية من المعتزلة ونحوهم، واعتقدوا أنه ليس لله تكليم إلا ذلك، وهو لا يخرج عن قسم الوحي الذي هو أحد أقسام التكليم، أو قسيم التكليم بالرسول، وهو القسم الثاني، حيث قال تعالى: وإيحاء الرسول ـ أيضًا ـ أنواع؛ ففي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ قال: (أحيانًا يأتيني مثل صَلْصَلَة الجرس، وهو أشده عليَّ، فَيفصمُ عني وقد وَعَيْتُ ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعِي ما يقول) . قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ولقد رأيته /ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فَيُفْصِمُ عنه، وإن جبينه لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا [[فيفصم]: أي يقلع . و[ليتفصد]: أي يسيل]. فأخبر صلى الله عليه وسلم أن نزول الملك عليه تارة يكون في الباطن بصوت مثل صلصلة الجرس، وتارة يكون متمثلا بصورة رجل يكلمه، كما كان جبريل يأتي في صورة دَحْيَة الكلبي، كما تمثل لمريم بشرًا سويا، وكما جاءت الملائكة لإبراهيم وللوط في صورة الآدميين، كما أخبر الله بذلك في غير موضع، وقد سمى الله كلا النوعين إلقاء الملك، وخطابه وحيا؛ لما في ذلك من الخفاء؛ فإنه إذا رآه يحتاج أن يعلم أنه ملك، وإذا جاء في مثل صلصلة الجرس يحتاج إلى فهم ما في الصوت. و القسم الثالث: التكليم من وراء حجاب، كما كلم موسى عليه السلام؛ ولهذا سمى الله هذا [نداء] و [نجاء] فقال تعالى: وهذا التكليم مختص ببعض الرسل، كما قال تعالى: وكذلك من زعم أن تكليم الله لموسى إنما هو من جنس الإلهام والوحي، وأن الواحد منا قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى ـ كما يوجد مثل ذلك في كلام طائفة من فروخ الجهمية الكلابية ونحوهم ـ فهذا أيضًا من أعظم الناس ضلالا. وقد دل كتاب الله على أن اسم الوحي والكلام في كتاب الله فيهما عموم وخصوص، فإذا كان أحدهما عامًا اندرج فيه الآخر، كما اندرج الوحي في التكليم العام في هذه الآية، واندرج التكليم في الوحي العام، حيث قال تعالى: وغلطت هنا الطائفة الثالثة ـ الكلابية ـ فاعتقدت أنه إنما أوحى إلى موسى ـ عليه السلام ـ معنى مجردًا عن صوت. واختلفت، هل يسمع ذلك؟ فقال بعضهم: يسمع ذلك المعنى بلطيفة خلقها فيه، قالوا: إن السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس معان تتعلق بكل موجود، كما قال ذلك الأشعري، وطائفة .وقال بعضهم: لم يسمع موسى كلام الله، فإنه عنده معنى، والمعنى لا يسمع، كما قال ذلك القاضي أبو بكر وطائفة. وهذا الذي أثبتوه في جنس الوحي العام الذي فرق الله ـ عز وجل ـ / بينه وبين تكليمه لموسى ـ عليه السلام ـ حيث قال: لكن هؤلاء يثبتون أن لله كلامًا هو معنى قائم بنفسه هو متكلم به، وبهذا صاروا خيرًا ممن لا يثبت له كلامًا إلا ما أوحى في نفس النبي من المعنى، أو ما سمعه من الصوت المحدث، ولكن لفرط ردهم على هؤلاء زعموا أنه لا يكون كلامًا لله بحال إلا ما قام به؛ فإنه لا يقوم إلا المعنى . فأنكروا أن تكون الحروف كلام الله، وأن يكون القرآن العربي كلام الله. وجاءت الطائفة الرابعة فردوا على هؤلاء دعواهم: أن يكون الكلام مجرد المعنى، فزعم بعضهم أن الكلام ليس إلا الحرف أو الصوت فقط، وأن المعاني المجردة لا تسمى كلامًا أصلا، وليس كذلك، بل الكلام المطلق اسم للمعاني والحروف جميعًا، وقد يسمى أحدهما كلاماً مع التقييد كما يقول النحاة: الكلام: اسم، وفعل، وحرف . فالمقسوم هنا اللفظ، وكما قال الحسن البصري: ما زال أهل العلم يعودون بالتكلم على التفكر، وبالتفكر على التدبر، ويناطقون القلوب حتى نطقت . وكما قال / الجنيد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب . فجعلوا للقلب نطقًا، وقوة، كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم للنفس حديثًا في قوله: (إن الله تجاوز لأمتي عما حَدَّثَتْ به أنفسها ـ ثم قال ـ: ما لم تتكلم به، أو تعمل به). فعلم أن [الكلام المطلق] هو ما كان بالحروف المطابقة للمعنى، وإن كان مع التقييد قد يقع بغير ذلك، حتى إنهم قد يسمون كل إفهام ودلالة يقصدها الدال قولاً، سواء كانت باللفظ أو الإشارة، أو العقد ـ عقد الأصابع ـ وقد يسمون أيضًا الدلالة قولا، وإن لم تكن بقصد من الدال مثل دلالة الجامدات كما يقولون: قالت: [أتساع بطنه]. وامتلأ الحوض وقال قطني ** قطني رويدًا قد ملأت بطني وقالت له العينان سمعا وطاعة ويسمى هذا لسان الحال ودلالة الحال، ومنه قولهم: سل الأرض من فجر أنهارك، وسقى ثمارك، وغرس أشجارك؟ فإن لم تجبك حوارًا أجابتك اعتبارًا، ومنه قولهم: تخبرني العينان ما لقلب كاتم ** ولا خير في الحيا والنظر الشزر [النظر الشزر: نظر شزر: فيه إعراض كنظر المعادي المبغض، وقيل: هو نظر على غير استواء بمؤخر العين، وقيل: هو النظر عن يمين وشمال]. ومنه قولهم: /سألت الدار تخبرنـي ** عن الأحباب ما فعلوا فقالت لي أناخ القــوم ** أياما وقد رحلـــــــوا وقد يسمى شهادة، وقد زعم طائفة أن ما ذكر في القرآن من تسبيح المخلوقات هو من هذا الباب، وهو دلالتها على الخالق تعالى، ولكن الصواب أن ثَمّ تسبيحًا آخر زائدًا على ما فيها من الدلالة، كما قد سبق في موضع آخر، لكن هذا كله يكون مع التقييد والقرينة؛ ولهذا يصح سلب الكلام والقول عن هذه الأشياء كما قال تعالى: وقال تعالى: وهذا معلوم بالضرورة والتواتر، وهو سلب القول والكلام عن الحي الساكت والعاجز، فكيف عن الموات؟! وقد علم أن الله ـ تعالى ـ موصوف بغاية صفات الكمال، وأن الرسل قد أثبتوا أنه متكلم بالكلام الكامل التام في غاية الكمال، فمن لم يجعل كلامه إلا مجرد معنى، أو مجرد حروف، أو مجرد حروف وأصوات، فما قدر الله حق قدره، ومن لم يجعل كلامه إلاما يقوم / بغيره فقد سلبه الكمال، وشبهه بالموات، وكذلك من لم يجعله يتكلم بمشيئته، أو جعله يتكلم بمشيئته وقدرته ولكن جعل الكلام من جملة المخلوقات وجعله يوصف بمخلوقاته، أو جعله يتكلم بعد أن لم يكن متكلمًا، فكل من هذه الأقوال، وإن كان فيه إثبات بعض الحق، ففيه رد لبعض الحق ونقص لما يستحقه الله من الكمال.
|